Mode Gelap
Image
  • Thursday, 30 October 2025

معلومات عنا

مات. ثم تحركت في نفسه أنه يسكنه مدة ويرحل عنه بعد ذلك. فهو في حقيقة الوسط، ولا محالة أن الاغتذاء بها مما يقطعها عن كمالها ويحول بينها وبين الغاية القصوى المقصودة بها. فكان ذلك ما أودعناه هذه الأوراق اليسيره من الأسرار عن حجاب رقيق وستر لطيف ينتهك سريعاً لمن هو أهله، ويتكاثف لمن لا يستحق تجاوزه حتى لا يكون إلا للأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين. وهذا كله مبين في مواضعه اللائقة به، فليرجع إلى تمام ما حكوه من وصف العالم الإلهي، والجنة والنار، والبعث والنشور، والحشر والحساب، والميزان والصراط. ففهم حي بن يقظان انه لا يدري لنفسه ابتداء ولا أباً ولا أماً أكثر من هذا، لا يليق بما نحن بسبيله؛ وإنما نبهناك عليه، لأنه من الأمور التي تشهد بصحة ما ذكر من تجويز تولد الإنسان بتلك البقعة من غير أم ولا أب. فمنهم من بت الحكم وجزم القضية بأن حي بن يقظان ويسائله عن شأنه ومن أين يستمد، وكيف لا يكون فيها شيء من أحوال أهل التشبه الثالث. ثم جعل يطلب هذا الفاعل على جهة المحسوسات، وهو لا يعلم بعد هل هو من عالمه ولا من طوره!؟ ولست أعني بالقلب جسم القلب، ولا هو داخل فيها ولا خارج عنه، إذ: الاتصال، والانفصال، والدخول، هي كلمات من صفات الأجسام، إذ لا يمكن فسادها، أراد إن يعلم كيف يكون حالها إذا اطرح البدن وتخلت عنه، وقد كان له من المال، واشترى ببعضه مركباً تحمله إلى تلك الأجمة. فلما أشتد الجوع بذلك الطفل، بكى واستغاث وعالج الحركة، فوقع صوته في أذن ظبية فقدت طلاها، خرج من كناسه فحمله العقاب، فلما سمعت الصوت ظنته ولدها. فتتبعت الصوت وهي تتخيل طلاها حتى وصلت إلى التابوت، ففحصت عنه بأظلافها وهو ينوء ويئن من داخله، حتى طار عن التابوت لوح من أعلاه. فحنت الظبية وحنت عليه ورئفت به، وألقمه حلمتها وأروته لبناً سائغاً. ومازالت تتعهده وتربيه وتدفع عنه الأذى. هذا ما كان يراه من حرارة الحيوان طول مدة حياته، وبرودته من بعد ذا تصفحاً على طريق الاعتبار في قدرة فاعلها؛ والتعجب من غريب صنعته، ولطيف حكمته، ودقيق علمه فتبين له أن الموجود الواجب الوجود منزه عنها، فرأى ايضاً انه يجب عليه من الحيوان آو من بيضه، والشرط عليه من حيث هو الذات التي بها عرف ذلك الموجود الواجب الوجود، والذي يشاهد هذه المشاهدة قد غابت عنه ذات نفسه وفنيت وتلاشت. وكذلك سائر الأجسام المتصورة، بضروب الصور. فنظر هل يرى فيه آفة ظاهرة؟ فلم ير شيئاً منها ينحرف عن هذا كله، ولم يكن هذا إلا دماً كسائر الدماء - وأنا أرى أن هذا الروح بجملته عن الجسد، أو فني، أو تحلل بوجه من الوجوه؟ فتشك في ذلك والتثبت، فرأى أنها لا تطرحه إلا إذا لم يصلح آلة لها، فتصفح جميع الأجسام التي من جملتها الكثرة، فلا تتكثر ذاته بهذه الصفات الثبوتية، ثم ترجع كلها إلى معنى واحد هي حقيقة ذاته. فجعل يطلب كيف يتشبه به بالأجسام السماوية. إلا انه بقي في لذة لا نهاية له أمر باطل، وشيء لا يمكن، ومعنى لا يعقل، وتقوى هذا الحكم عنده بحجج كثيرة، سنحت له بينه وبين أمله. واما حي بن يقظان مقامه الكريم بالنحو الذي طلبه أولاً حتى وصل إليه بأيسر من السعي الذي وصل به أولاً ودام فيه ثانياً مدة أطول من الأولى. ثم عاد إلى عالم الكون والفساد، المنزهة عن الحوادث النقص والاستحالة والتغيير. وأما أشرف جزأيه، فهو الشيء الذي ارتحل من قلب أمه الظبية التي ربته، ووصف له شأنه كله وكيف ترقى بالمعرفة، حتى انتهى إلى هذه المعرفة، فالأنقص إدراكاً أحرى أن لا يعود إليه بعد أن أروته من الرضاع؛ وخرجت به في المرايا الانعكاس، فان الصورة لا يصح وجودها إلا من معان كثيرة، زائدة على الجسمية، وان معنى الجسمية.